نظرية تعاقب الحضارات

نظرية تعاقب الحضارات:  في المقال السابق تحدثنا عن نظريات قيام الحضارات وأسباب انهيارها، واليوم نتحدث بإستفاضة عن نظرية تعاقب الحضارات.

فكما يؤكد الفيلسوف الألماني أزوفالد شبنجلر [1] أن كل حضارة هي كائن حي له قوامه الخاص، وله كيانه الذي يستقل به تمامًا عن غيره، فكما أن للإنسان دورة حياة، تبدأ بالطفولة والشباب، ثم النضج، ثم الشيخوخة وأخيرًا الموت، فكذلك لكل حضارة من الحضارات الإنسانية عدد من الدورات المتصلة، تفضي كل منها إلى أخرى أكثر تقدما ورقياً، في البداية فترة ميلاد، ثم شباب ونضج، ثم لحظة موات وأفول حتمية، وكلٌّ من هذه المراحل لها مدة محددة. وبذلك تكون مراحل الدورة الحضارية عند شبنجلر تتمحور في ثلاثة أطوار [2] هي:

الطور الأول: مرحلة النشوء والميلاد للحضارة، ويشبهه بالطفولة والشباب، حيث تسوده سيطرة الروح بفعل نفوذ الفكرة الدينية.

الطور الثاني: مرحلة النضج، ويشهد سيطرة العقل، وهو مرحلة القمة والشباب، وفي أحيانٍ أخرى يتخلَّى عن تشبيه الحضارة بالكائنات الحية، ويستبدل به تشبيهًا آخر مستمدًّا من الفصول الأربعة، فمرحلة النضج هنا يشبها بالربيع، والازدهار والنهضة، ثم المدنية.

الطور الثالث: مرحلة الشيخوخة وأخيرًا الموت، حيث يسود التراجع الحضاري، وسيطرةُ الغريزة، ويحدث ذلك في الأجيال التي وُلدت بعد قمة النضج الحضاري، فهي لم تعاصر مخاض الفكرة وآلام ولادتها ولم تعاصر التحديات وإنَّما خرجت لتجد تميّزًا وسبقًا على المستوى الروحي والعقلي، ويكون الإيمان لديها موروثًا وليس حقيقة في الصدور، وهنا تبدأ حالة التراجع الروحي والإنتاج العقلي، لاختفاء التحديات وانقطاع الصلة بأصل الفكرة وأطوار نشأتها.

وتبدأ الدورة الحضاريَّة في الانقلاب إلى الأسفل مرّة أخرى أيضًا بشكلٍ مُتعرّج يصحبه صيحات تنبيه من حينٍ لآخر، والسقوط الذي يؤذن بأفول الحضارة وتلاشيها نهائيا، لتعيد كرتها من جديد، في مجتمع آخر ليس بالمجتمع الوليد، فالتاريخ الإنساني حلقات متسلسلة تشكل الحضارة إحدى وحداته.

إذاً فالتاريخ عند شبنغلر لا يسير وفق خطوط مستقيمة، بل يتبع مسارا حافلا بالانحناءات والتعرّجات، وهو عبارة عن دورات انتظمت في كل منها إحدى الحضارات الإنسانية التي قامت ونشأت وعاشت ونضجت وازدهرت ثم آلت إلى اضمحلال وخفوت ثم إلى أفول واندثار.. والمنتصر فيه لا يظل منتصرا وبارزا ومتفوقا،

ومن الأمثلة الحديثة على ذلك:

كيف اصبحت الولايات المتحدة الامريكية دولة عظمى؟

الطور الاول: مرحلة النشوء والميلاد للحضارة الامريكية: في عام 1492م، وصل المستكشف الإيطالي كريستوفر كولومبس بموجب عقد مع الملكية الأسبانية إلى العديد من جزر البحر الكاريبي، وفي عام 1513م، وصل الأسباني خوان بونسي دي ليون إلى ما دعاه حينها «لا فلوريدا» ثم تبعت المستوطنات الإسبانية في المنطقة مستوطنات أخرى.

في اليوم الــ 14 من شهر يونيو عام 1775م، أسس المؤتمر الذي عقد في فيلادلفيا جيشاً قارياً بقيادة جورج واشنطن. وأعلن المؤتمر أن «كل الناس قد خلقوا متساوين» ووهبوا «بعض الحقوق غير القابلة للتغيير»، كما اعتمد المؤتمر إعلان الاستقلال الذي صاغه توماس جيفرسون في الرابع من شهر يوليو 1776م. يحتفل بذاك التاريخ سنوياً كونه عيد استقلال أمريكا.

الطور الثاني: مرحلة النضج: ساعد في ذلك العوامل التالية:

الحرب العالمية الأولى: كانت القوى العظمى الأجنبية قبل الحرب، مثل بريطانيا العظمى وفرنسا، أضعف من أن تستمر في مراقبة العالم. وكانت أمريكا هي المستفيد الرئيسي وربما الوحيد من الصراع الذي تورط فيه الأوروبيون لحظة اغتيال وريث عرش الإمبراطورية النمساوية المجرية في يونيو/حزيران العام 1914م. حيث أدى الصراع الذي دام لأربع سنوات إلى تغييرات سياسية واقتصادية وثقافية لا تزال آثارها باقية إلى اليوم.

 وبعد انتهاء الحرب، استخدمت واشنطن ورقة الديون في إعادة تشكيل توازن القوى العالمية، وقامت باستدعاء القادة الأوروبيين إلى البيت الأبيض بدلاً من الاجتماع معهم في عواصمهم، وحصلت منهم على تنازلات كبيرة مقابل تحسين شروط السداد.

الحرب العالمية الثانية: بعد أن كانت الولايات المتحدة على الحياد خلال المراحل الأولى للحرب العالمية الثانية وغزو ألمانيا النازية لبولندا في شهر سبتمبر من عام 1939م، ثم انضمت الولايات المتحدة إلى الحلفاء ضد قوات المحور، وأدت المشاركة في الحرب إلى زيادة رأس المال والاستثمار والقدرة الصناعية الامريكية.

من بين القوى المتحاربة كانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي أصبحت أكثر ثراء، بدلاً من أن تصبح أكثر فقراً بسبب الحرب. ثم أصبح الدولار الأمريكي العملة المهيمنة في التجارة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية؛

ربط الدولار بالذهب: حيث  أنشأت اتفاقية بريتون وودز لعام 1944 النظام النقدي الدولي بعد الحرب، واعتبرت الدولار الأمريكي العملة الاحتياطية في العالم وربطته بالذهب. وهذا يعني أن الدول الأخرى يمكنها استبدال دولاراتها الأمريكية بالذهب بسعر ثابت.

ربط الدولار بالبترول “البترودلار”: في عام 1974م، وبعد فترة قصيرة من أزمة النفط العالمية في حرب أكتوبر عام 1973م، توصلت الحكومة السعودية لاتفاق مع إدارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، لتسعير كافة صادرات السعودية النفطية بالدولار. شملت الصفقة في حينها شراء السعودية سندات خزينة أمريكية.

الطور الثالث: مرحلة الشيخوخة وأخيرًا الموت ولكن لا شيء يدوم إلى الأبد. فالأساس الذي يقوم عليه النظام العالمي الحالي هو الهيمنة الاقتصادية الأمريكية المستمرة منذ أكثر من قرن. غير أن هذه الهيمنة أصبحت مهددة الآن أكثر من أي وقت مضى من الصين التي تمشي بخطى ثابتة ناحية تحقيق ما فشل السوفيت والألمان في عز مجدهما في تحقيقه، وهو التكافؤ الاقتصادي مع الولايات المتحدة.

المراجع:

[1] أوزفالد شبينغلر (1936 ـ 1880): مؤرخ وفيلسوف ألماني شملت اهتماماته أيضاً الرياضيات والعلم والفن. يعرف بكتابه “تدهور الحضارة الغربية – أو سقوط الغرب” في العام 1918م، الذي أصبح من الكتب التأسيسية في الفكر الفلسفي المعاصر. وترجم إلى اللغة العربية بعنوان تدهور الحضارة الغربية، ويعرض نظرية سقوط وازدهار الحضارات وأن ذلك يتم بشكل دوري، ويغطي كل تاريخ العالم وقدم نظرية جديدة جعل فيها عمر الحضارات محدوداً وأن مصيرها إلى الأفول، ولعله تأثر بما كتبه ابن خلدون في هذا المجال).

[2] (المرجع: كتاب الانسان والحضارة تأليف: فؤاد زكريا – القسم الأول – مجرى الحضارة من ص  33- 49)

Exit mobile version