هل كان الفراعنة وثنيين أم موحدين؟

تقول الدكتورة زكية طبوزادة في مقدمة كتاب الموتى للمصريين القدماء لبول بارجيه إن مما يبرهن على عمق الفكر الدينى وثرائه وتنوعه وإيمانه الثابت تكرار لفظ الاله الواحد في مختلف نصوص الكتابة أهمها قول أنوبيس:” يا أيها الإله الواحد الذي ليس له ثان“، سوف يأتى يوم للحساب يقتص فيه الإله من الظالم وتُرد الحقوق إلى أصحابها، كما عرف المصرى القديم مسألة تلقين الميت، وفي فقرة أخرى من الكتاب تصف الحياة بعد الموت في الجنات الموعودة: ” ستحيا في نعيم، ولكن لن يكون فيها لذة، حياة أبدية لن ينالها المصري القديم بعد وفاته، إلا بعد الوقوف أمام المحكمة الكبرى ليحاسب على أعماله وما أقترفه في دنياه، وإذا برأته المحكمة نال الحياة الأبدية ونعم فيها بصحبة الابرار من الموتى.

ويقول زاهى حواس عن التوحيد الذي يبدو موثقا بشكل أكبر ومنسوب إلى الملك امنحتب الرابع “إخناتون”، الذي حكم البلاد تقريبا بين عامي 1379 و1362 ق.م. وأحد أشهر فراعنة مصر القديمة على الإطلاق، والذي كان ملكًا مسالمًا، وفيلسوفًا هادئًا، منصرفًا إلى دعوة دينية، وكانت دعوته قريبة من التوحيد، ولكنها لم تصل إلى الكمال الذي وصلت إليه الرسالات السماوية. حيث ألغى عبادة الآلهة المتعددة، وقال بأن خالق الكون والكائنات هو الخالق الواحد، ورمز له بقرص الشمس، وكانت مشكلته أنه أخذ من الشمس مظهرا من مظاهر قدرة الإله الواحد؛ فظهر كما لو كان يتعبد للشمس، والحقيقة أن أخناتون كان يؤمن بالإله الواحد خالق الكون كله.

غسل وتطهير جسد المتوفى قبل دفنه: كان المصري القديم يؤمن بالبعث (الحياة الثانية بعد الموت) ولذلك كان غسل وتطهير جسد المتوفي يعد خطوة على درجة كبيرة من الأهمية في سبيل الإعداد لرحلة الخلود والإقامة في العالم الآخر. والاهتمام بإعداد وتجهيز المدفن أو المقبرة وتزويدها بالأثاث وكل ما يلزم المتوفى خلال هذه الرحلة يعد من أهم الشئون التي اعتنى بها المصري القديم، كما شاهدنا ذلك في عصر ما قبل الاسرات فكانو يدفنون موتاهم بعد لفهم بالحصير في الصحراء ورأس الميت في إتجاه الجنوب وينظر إلى الغرب، وكانوا يدفنون معهم حيواناتهم المحببة أو بعض التماثيل لحيوانات أو لنساء أو للطيور.

التحنيط: في إطار إيمان المصري القديم بحياة ما بعد الموت وأنها حياة أبدية لا موت بعدها، فقد سعى إلى اتخاذ كل الوسائل اللازمة للحفاظ على جسده سالمًا لا يمس. ومنذ عصور ما قبل التاريخ والمصري حريص على أن يدفن موتاه في وضع القرفصاء، وهو نفس وضع الجنين في بطن أمه، معتقدًا أنه كما بدأ حياته جنينًا كان لابد أن يدفن على نفس الوضع ليبعث من جديد في العالم الآخر. ولهذا أخذ يهتم بالمقبرة التي بدأت على شكل حفرة أخذ يطورها على امتداد سنوات طويلة، ثم تطورت إلى مصطبة، فمصطبة مدرجة، فهرم، وأخيرًا إلى مقبرة محفورة في الصخر. والتحنيط يمثل علامة بارزة من علامات الحضارة المصرية القديمة، ويعبر عن خبرة متميزة في علوم الطب والتشريح والكيمياء.

الخاتمة:

لطالما كانت مصر مركزًا روحيًا وحضاريًا عظيمًا، حاضنة للأنبياء وملتقى للأديان السماوية. فهي الأرض التي اختارها الله لتكون مأوى للرسل ومسرحًا للرسالات. فقد جاء إليها خليل الله إبراهيم عليه السلام، وتزوج من السيدة هاجر، وسكن فيها نبي الله يوسف عليه السلام، ثم التحق به والده يعقوب. كما دار فيها أعظم حوار بين الخالق عز وجل وكليمه موسى عليه السلام، ولجأت إليها العائلة المقدسة – السيدة مريم العذراء، والطفل يسوع المسيح، ويوسف النجار – في رحلة مباركة دونت فصولها في التاريخ الإنساني.

هذا التميز لم يأتِ عبثًا، فقد شاء الله أن تكون مصر واحة للأمن والسلام، وأرضًا احتضنت أعظم الحضارات الإنسانية على مر العصور؛ من الحضارة الفرعونية، إلى الإغريقية والرومانية، ثم القبطية، وصولًا إلى الحضارة الإسلامية. وكان شعبها دائمًا مثالًا للتسامح والتعايش، يتّحد أبناؤه في نسيج وطني متين، تتآلف فيه القلوب رغم تنوع الأديان والثقافات.

ولعل من الواجب اليوم أن نعيد النظر في تاريخ مصر الفرعونية، لا بوصفه تاريخًا لوثنية كما يروّج البعض، بل كبداية مبكرة للتوحيد والإيمان بالحياة الآخرة. فقد آمن المصريون القدماء بوجود يوم للحساب، وبأن للإنسان حياةً أخرى يعيش فيها بعد الموت، فكانوا يضعون في المقابر ملابس ومتعلقات شخصية، إيمانًا بأن الميت سيقف أمام محكمة الله. إن التوحيد في مصر لم يكن طارئًا، بل بدأ منذ عصور ما قبل الأسرات، وضرب بجذوره في أعماق الزمن.

ومن هنا، لا بد من إعادة كتابة هذا التاريخ في مناهجنا التعليمية، بطريقة تُبرز ما قدمه الفراعنة للبشرية، وتُزيل عنهم صفة الوثنية التي أُلصقت بهم ظلمًا. فقد عاش في كنف الدولة المصرية القديمة عدد من أنبياء الله، مثل يوسف وموسى عليهما السلام، وما ورد في القرآن الكريم عن ظلم الفرعون، كان خاصًا بفرعون واحد فقط – وهو فرعون موسى – لا بكل ملوك مصر.

إن إنصاف تاريخ مصر، بكل مراحله، هو إنصاف لروح هذه الأرض الطيبة التي كانت دومًا منارة للبشرية، ومركزًا لتلاقي الحضارات، ومهدًا للرسالات.

وبكدة نكون وصلنا لنهاية حلقتنا النهاردة
في الحلقة القادمة والي سنتحدث فيها عن تطور الحركة العلمية والفكرية عند قدماء المصريين فانتظرونا.
والسلام عليكم ورحمة الله.

المراجع:

Exit mobile version